فصل: مسألة حلف بالطلاق أو العتق إن خرجت امرأته ألا يقضي عليه بذلك سلطان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة حلف ليضربن عبده فمات العبد قبل أن يضربه:

ومن كتاب الطلاق الأول:
وسئل: عمن قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت على أختك بيتها أبدا حتى تأتيك هي وبناتها، فماتت أختها قبل أن تأتيها فأرادت شهودها والذهاب إلى بيتها.
فقال: قد ماتت، فلا أرى بأسا أن تذهب إليها، ولا أرى عليه طلاقا إذا كان بناتها قد جئنها، هي الآن من أهل القبور.
قال محمد بن رشد: كان القياس في هذه المسألة أن يحنث بدخولها عليها وهي ميتة قبل أن تأتيها وهي ميتة وإن كان بناتها قد جئنها إذا كانت قد أقامت قبل أن تموت لمكنها فيه الإتيان، كمن قال: امرأتي طالق إن فعلت كذا وكذا حتى يفعله فلان فمات قبل أن يفعله، وقد أقام ما لو شاء أن يفعله فعله أن اليمين عليه باقية، ولما قال في رسم حمل صبيا من سماع عيسى في الذي يقول لامرأته: أنت طالق إن دخلت بيت أبيك حتى يقدم الحاج وشبه ذلك، وفي سماع أصبغ من كتاب العتق في نحو ذلك، وكمن حلف ليضربن عبده فمات العبد قبل أن يضربه، وقد أقام ما لو شاء أن يضربه أنه حانث، إذ لا اختلاف فيمن حلف ألا يدخل على فلان بيتا أبدا أنه حانث إن دخل عليه بيتا، وإنما اختلف إذا حلف ألا يدخل عليه بيتا ما عاش فدخل عليه بعد أن مات، وقد مضى وجه الاختلاف في ذلك في سماع أشهب من كتاب النذور.
ووجه ما ذهب إليه مالك في هذه المسألة: أنه حمل يمينه على معنى ما ظهر إليه من إرادته، وهو أنه أراد ألا تبتدي أختها بالدخول عليها مع قدرتها هي على الإتيان إليها، ومعنى قوله: هي الآن من أهل القبور، أي:
ليست ممن يقدر على الإتيان، وقد ذهب ابن دحون إلى أن ما في سماع أشهب من كتاب النذور من أن من حلف ألا يدخل على فلان بيتا حياته فدخل عليه ميتا أنه حانث معارض لهذه المسألة، وذلك غلط ظاهر على ما بيناه، وإنما هي معارضة لما في رسم حمل صبيا من سماع عيسى على ما ذكرناه، وبالله التوفيق.

.مسألة قالت لابنها انكح أم ولدك التي أعتقت عليك فقال هذه طالق البتة إن تزوجتها:

وسئل: عن امرأة قالت لابنها: انكح أم ولدك التي أعتقت عليك، فقال: هذه طالق البتة إن تزوجتها إلا أن تعطيني عشرين دينارا، أفيصلح لأمه أن تعطيه إياها فإذا تزوجها نزعتها منه، فقال: ما أرى بأسا أن تنزعها منه بعد أن يتزوجها، فلتفعل.
قال محمد بن رشد: قال ابن نافع: هذا غلط، ولا أرى أن يعمل به، قال أبو محمد: إنما أراد مالك أنها لم تواطئه على ذلك، ثم إنه طاع لها بالرد بعد النكاح، وقوله صحيح لا وجه للمسألة سواء.

.مسألة قلت لامرأتي أنت طالق البتة إن لم أخرج من المدينة:

قلت له: قلت لامرأتي: أنت طالق البتة إن لم أخرج من المدينة.
فقال: يخرج مخرج سفر ولا يخرج مخرجا هكذا، فقال: والله ما أردت نكاحها ولا أردت ضررها، فقال: إنا لنقول في مثل هذا: سافر ما تقصر فيه الصلاة، ثم قال له الروحا، قال أشهب: إذا ذهبت إليها.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال إذا لم تكن له نية في مكان بعينه يسير إليه، ولا في مقدار ما يتباعد من المدينة، ولا كان ليمينه بساط يحمل عليه أنه يبر بالخروج من المدينة، وقد اختلف في حد ذلك، فقال في هذه الرواية: إنه يخرج إلى مثل ما تقصر فيه الصلاة، يريد: ويقيم هناك الشهر ونحوه على حكم الحالف لينتقلن أنه ينتقل فيقيم الشهر ونحوه، فإن رجع بعد خمسة عشر يوما لم يحنث.
قال مالك في كتاب ابن المواز: وهذا استحسان، والقياس أنه يخرج إلى موضع لا يلزمه فيه أن يأتي منه إلى الجمعة، فيقيم ما قل أو كثر ثم يرجع إن شاء، والأول أبرأ من الشك، ومثله لابن القاسم في المبسوطة، وعلى هذا يأتي قوله في مسألة رسم البراءة من سماع عيسى بعد هذا.
وقال أصبغ في أحد الكتب الخمسة في هذا: إنه استحسان أيضا، والقياس أنه لا يلزمه أن يخرج من المدينة إلا إلى منتهى أطرافها وهو حد ما يقصر فيه الخارج ويتم عند الوصول إليه الداخل، وقد قيل: إنه لا يبرأ إلا بالخروج عن جميع عملها وأن يجاوز ذلك حد ما تقصر فيه الصلاة، روى هذا القول عن ابن كنانة في المدنية.
وعلى هذه الأربعة أقوال يختلف فيمن حلف ألا يتزوج من بلد كذا، وتحصيل القول في ذلك: أن فيه قولين: أحدهما: أن يمينه تحمل على البلد، وجميع عمله حتى يريد الحاضرة نفسها، والثاني: أنه يحمل على الحاضرة نفسها حتى يريدها وعملها، فإن أرادها وعملها أو لم تكن له نية على القول الآخر، فقيل له: إنه لا يتزوج فيما تقصر فيه الصلاة، وهو أربعة برد، وقيل: إنه لا يتزوج في جميع عملها وإن تجاوز أربعة برد، وإن أراد الحاضرة نفسها أو لم تكن له نية على القول الآخر، فعلى الأربعة الأقوال المذكورة التي بينا وسمينا قائليها، وبالله التوفيق.

.مسألة يقول لرجل امرأته طالق إن لم أخاصمك إلى فلان فيعزل ذلك الوالي:

وسئل: عن الذي يقول لرجل: امرأته طالق إن لم أخاصمك إلى فلان، فيعزل ذلك الوالي أو يموت.
قال: لا أرى عليه شيئا، وأرى أن يخاصمه إلى الإمام الذي خلف بعده، وأرى أن ينوى، فإن قال نويت هذا المعزول نفسه أو الميت لم ير أن يخاصمه إلى الذي خلف، وإن قال لم أنو شيئا رأيت أن يخاصمه إلى الذي خلف بعده؛ لأنه إنما أراد مخاصمته وغيظه وضده وإدخال المشقة عليه، وإن قال لا أخاصمه إلى هذا الذي خلف بعده، قد مات صاحبي الذي حلفت عليه، قيل لا والله ما ذلك لك إن كان ذلك منه على وجه أن يخاصمه وأن يغيظه وأن يضر به، إلا أن يقول نويت هذا الذي عزل نفسه أو مات، فأرى ذلك له ولا أرى عليه شيئا إن لم ينو شيئا إذا خاصمه إلى الذي خلف بعده، وإنما أراد بالسلطان أن يبلغ مقاطع الحدود ومغيظته.
قيل له: أرأيت لو أقام شهرين بعد يمينه لا يخاصمه حتى مات ذلك الوالي أو عزل؟
قال: كنت أرى ذلك له إلا أن يتطاول ذلك جدا أو تدخله أناة شديدة.
قال محمد بن رشد: لم يراع مالك في هذه المسألة التسمية وحمل يمينه على ما يظهر من قصد الحالف خلاف قوله في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم.
وقوله: إلا أن يقول نويت هذا الذي عزل نفسه أو مات فأرى ذلك له، معناه: فأرى ذلك عليه ويؤخذ بما زعم أنه نواه، ويحنث إذا لم يرفعه إليه حتى مات أو عزل إلا أن يموت أو يعزل بحدثان ذلك؛ لأن نيته هذه عليه وليست له.
وقوله: أنه لو أقام شهرين بعد يمينه لا يخاصمه حتى مات أو عزل أن ذلك له ما لم يتطاول أو يدخله أناة شديدة، قال ابن دحون: إنه إن لم تأت له الخصومة في الشهرين، فأما إن تأتت له الخصومة في الشهرين ولم يخاصمه حتى عزل الحاكم أو مات فهو حانث إذا طال تأنيه جدا، وليس قول ابن دحون عندي بصحيح؛ لأنه ما لم تتأت له الخصومة وإن طال أمر ما عسى أن يطول فلا يحنث وإن كانت الخصومة متأتية له فهو حانث فيما دون الشهرين، فالمعنى في المسألة إنما هو أنه يصدق في الشهرين إن ادعى أن الخصومة لم تتأت له فيهما ولا يصدق في ذلك إذا طال جدا، والله أعلم.

.مسألة الرجل يجمع في نفسه على طلاق امرأته حتى يكون قد طلق نفسه:

وسئل: عن الرجل يجمع في نفسه على طلاق امرأته حتى يكون قد طلق نفسه ولم ينطق به لسانه، أترى عليه طلاقا؟
فقال: إي والله في رأيي، وما هذا بوجه الطلاق.
قال محمد بن رشد: قوله: وما هذا بوجه الطلاق- معناه: ليس هذا من شأن الناس وعاداتهم أن يفعلوه، وهذا مثل قوله في هذا السماع من كتاب التخيير والتمليك: ليس يطلق الرجل بقلبه ولا ينكح بقلبه، أي: ليس بشأن الناس أن يفعلوه، إذ لا تأثير له في الحكم الظاهر، وقد كان الشيوخ يحملون ذلك على أنه اختلاف من قول مالك، وأن ما في كتاب التخير والتمليك أصح مما في هذا الكتاب، وكذلك قال ابن دحون في هذه المسألة: إنها مسألة حائلة؛ لأن كل الروايات عن مالك: أنه لا يلزمه إلا ما حرك به لسانه أو كتبه بيده، فإن لم يحرك به لسانه، وليس ذلك على ما قال، بل هي مسألة صحيحة على الأصول؛ لأن الكلام باللسان والكتب باليد إنما هو عبارة عما في القلب يفيد الحكم الظاهر خاصة، وما أجمع عليه في قلبه من طلاق امرأته لازم له فيما بينه وبين الله وإن لم ينطق به لسانه ولا خط به بنانه، هذا هو الصحيح، وإن كان قد روى عبد الرحمن الأعلى عن ابن وهب عن مالك في الرجل يطلق بقلبه، قال: ليس عليه شيء حتى يكون الإفصاح، على أنه يحتمل أن يريد ليس عليه شيء في الحكم الظاهر، والله أعلم.

.مسألة فحلف البائع بطلاق امرأته البتة إن وضع من ثمن الجارية شيئا:

وسئل: عمن باع جارية من رجل فسأله أن يضع له ثلاثة دنانير فحلف البائع بطلاق امرأته البتة إن وضع عنه دينارين ونصفا إلا أقل، فجاء أخو الحالف فقال: أغرم ما بقي ولا يختصمان.
فقال له مالك: أما شيء يكون عليك فلا، وأما شيء يكون من مال أخيك فنعم، يصالحه به عليك من مال نفسه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال: إنه إن كان أخو الحالف يقدم ذلك للحالف من مال نفسه على أن يتبعه بذلك، أو من مال أخيه الحالف فلا يبر الحالف بذلك؛ لأنه لم يصل إليه ما حلف عليه، فكأنه قد وضع عليك عن المشتري، وإن كان يقدم ذلك من ماله عن المشتري للحالف فقد بر الحالف؛ لأنه قد وصل إليه ما حلف عليه ولم يضع منه شيئا للمشتري، وسواء اتبع الغارم المشتري بما غرم عنه أو وهبه له ولم يتبعه به، وبالله التوفيق.

.مسألة ادعى في الطلاق نية تشبه غير مخالفة لظاهر قوله:

وسئل: عن عبدين كانت بينهما منازعة، فأخذ قيم سيدهما القيد ليجعله في رجل الظالم منهما، فقال له: لم تقيدني؟ أتخاف أن أبق منك؟ امرأتي طالق البتة إن أبقت منك إلا إلى أهلي، فأبى القيم أن يصدقه بيمينه وقيده، فكسر العبد القيد وفر إلى أهله كما قال، فأقام عندهم سنتين أو أكثر ثم أبق منهم إباقا بينا هو الإباق، فقال له أهله: أتخاف أن تكون قد حنثت؟ حلفت بالطلاق ألا تأبق، فقال العبد: لم أرد الإباق أبدا إنما أردت يومئذ ألا أبق إليكم، ففعلت.
فقال له مالك: ما أراه أراد إلا اليمين الأولى ألا يأبق من القيم نفسه إلا إلى أهله، إرادة أن يؤمنه مما يخاف، قال: أرى ألا عليه شيئا، وأرى عليه اليمين ما أراد إلا ذلك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة على أصولهم في أن من ادعى في الطلاق نية تشبه، غير مخالفة لظاهر قوله صدق فيها مع يمينه ونيته غير مخالفة لقوله، بل هي موافقة له؛ لأنه قال: امرأتي طالق إن أبقت منك، وهو لم يأبق منه، وإنما أبق من عند أهله بعد أن بر في يمينه إذ لم يأبق يومئذ، وهذا بين، وبالله التوفيق.

.مسألة قال امرأتي طالق البتة إن كان أكل عندي فلان وفلان واستثنى سرا:

وسئل مالك: عمن قال: امرأتي طالق البتة إن كان أكل عندي فلان وفلان، واستثنى سرا إلا تمرا.
فقال مالك: إني أخاف ألا يكون لسانك تكلم بذلك، إنما هو شيء وجدته في نفسك، فقال: بلى، قد تكلمت به كلاما في نفسي، فقال له: إنه أنطق لسانك، قال: نعم، ولكن قد كان شربا عندي مذقا، فقال له مالك: كم طلقتها؟ فقال: لم أقل شيئا، إنما قلت هي طالق، قال: أكنت طلقتها قبل اليوم شيئا؟ قال: نعم واحدة، فقال له: قد طلقتها واحدة وهذه اليمين ثانية، فقد طلقتها اثنين ولك عليها الرجعة، فتكون عندك على واحدة، ثم قال له: منذ كم حلفت؟ قال: منذ ستة أشهر، قال: قد حلت فاخطبها مع الخطاب ثم أنكحها نكاحا جديدا بعد أن تستبرئها بالعدة من مائك الذي مسستها فيه وهي مطلقة؛ لأنك لم تكن ارتجعت حتى حلت، قال: من ينكحنيها؟ قال: أبوك إن شئت بشهود وبينة وصداق جديد ثوب أو غير ذلك؛ لأنك قد أنكحتها مرة فينكحكها أبوك، وليس في ذلك بأس.
قال محمد بن رشد: المذق هو اللبن المضروب بالماء، فإنما أوجب عليه الحنث لشربهما إياه عنده إذا حلف أنهما ما أكلا عنده شيئا ولم يستثن إلا التمر؛ لأن يمينه ما أكلا عنده شيئا معناه ما طعما عنده طعاما، واللبن طعام، يجب به الحنث عليه إذا كانا قد شرباه، كما يجب به عليه لو أكلاه؛ لأن المعنى في الأكل والشرب سواء، إذ يجمعه اسم الطعم، إلا أن تكون له نية في أحدهما دون الآخر، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249]، ولو لم يشربا عنده المذق لم يجب عليه شيء إذ قد استثنى التمر إذا كان قد حرك به لسانه، وإن لم يعلم المحلوف عليه، وهذا على القول بأن اليمين على نية الحالف وأن الاستثناء لا ينفع إلا بتحريك اللسان، وقد مضى القول على الوجهين في رسم البز من سماع ابن القاسم، ولما رأى الطلاق واقعا عليه وأخبره أن له منذ حلف بالطلاق ستة أشهر، قال له: قد حلت فاخطبها مع الخطاب، معناه: على الغالب في أن العدة تنقضي في مثل هذه المدة. وقوله: إنه يزوجها منه أبوه، ظاهره: وإن رضي به الولي لا يردها عليه، وإن لم يكن لها بولي، إذ قد زوجها منه أولا وليها، وهذا خلاف قوله في النكاح الأول من المدونة: إن النكاح الأول والآخر في ذلك سواء.
والأصل في هذا الاختلاف اختلافهم في المرأة يزوجها أجنبي، فعلى القول بأن النكاح يفسخ، وإن رضي به الولي، لا يردها عليه الأجنبي. وعلى القول بأن النكاح يجوز ولا يفسخ إذا رضي به الولي يردها عليه، وعلى القول بأن النكاح يفسخ وإن رضي به الولي لا يردها عليه الأجنبي، إذ قد علم رضا الولي به أولاً. وقد روى أبو قرة، قال: سألت مالكا عن المرأة تختلع من زوجها ثم يراجعها في عدتها بغير إذن وليها، قال: فقال: إن أحب أحب إلي ألا يراجعها إلا بإذن وليها، فإن راجعها بغير ولي لم أفرق بينهما، وهي رواية شاذة، إذ لا اختلاف في المذهب في أن المرأة إذا زوجت نفسها يفسخ النكاح على كل حال، ولا يلتفت فيه إلى رضا الولي.
ووجهها على شذوذها: مراعاة العلة في إيجاب المولى في النكاح، وهي أنه لما كان النساء في نقصان فطرتهن لا يؤمن عليهن أن تميل نفوسهن إلى غير أكفائهن، فيلحق من ذلك الأولياء غضاضة، جعل من الحق لهم ألا يكون لهن أن يزوجن أنفسهن، فكان إرجاعهن أنفسهن إذا وقع على أزواجهن جائزا، إذ لا غضاضة على أوليائهن في ذلك، إذ قد زوجوهم أولا، وقد تأول في هذه المسألة أن أبا الزوج كان من عصبة المرأة، فلذلك قال: يزوجكها أبوك. وقوله: لأنك أنكحتها؛ مرة- يرد هذا التأويل، إذا لو كان من عصبتها لزوجها وإن لم ينكحها الزوج قبل ذلك إلا أن يكون ثَمَّ من الأولياء من هو أقصد منه، فيكون هو أولى بإرجاعها، وبالله التوفيق.

.مسألة أعار إنسانا زوج حمام فقال امرأته طالق البتة إن لم يكن فرخي:

وسئل: عمن أعار إنسانا زوج حمام ذكرا وأنثى فأفرخا عنده، ثم جاء فأخذ منه حمامه، الذكر والأنثى الذي أعاره، ثم وجد عنده فرخا، فقال: هذا فرخي، فقال: امرأته طالق البتة إن لم يكن فرخي، فقال الآخر: والله ما هو فرخك.
فقال: أرى أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنه لفرخه بعينه يعرفه.
قال محمد بن رشد: يريد أنه يدين في اليمين فلا يحنث، ولا يأخذ الفرخ إذا حلف المستعير بالله إنه له، إذ هو المدعي عليه في الفرخ، وقد أحكمت السنة أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وقد مضى ما يبين هذا المعنى في رسم تسلف من سماع ابن القاسم، وإنما يحلف إذا طولب بحكم الطلاق، وقد قيل في مثل هذا النحو: إنه لا يمين عليه؛ لأنها يمين تهمة، وسنذكر الاختلاف في ذلك في رسم المكاتب من سماع يحيى، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف بطلاق امرأته إن كلم ابنته أبدا ولا يدخل عليها أبدا:

ومن كتاب الطلاق الثاني:
قال: وسئل مالك: عن رجل حلف بطلاق امرأته إن كلم ابنته أبدا ولا يدخل عليها أبدا. قال: وأنا أريد تسليما في صحة أو عيادة في مرض، فمرض زوجها ونقله إليه وفتح بينه وبينها بابا، فكان يدخل عليه إذا خرجت، فإذا خرج دخلت ابنته حتى مات الزوج، فجعل على الباب الذي بينه وبينها سترا، فسقط فدخل يصلحه وهي في الدار فقيل له في ذلك، فقال: إني لم أرد هذا، ثم لما أرادوا غسله دخل في بيت من الدار معها قريب منها، وقال: لم أرد هذا إنما أردت زيارة في صحة أو عيادة في مرض، فلما دفن ختنه، قال لامرأته، وابنته من وراء ذلك الباب الذي فتح قبل أن يستره: قولي لها: أعظم الله أجرك وأحسن عقباك، فقالت لها.
فقال مالك: أما تعزيته إياها فإن كان قال ذلك لامرأته وابنته تسمع، فأراه قد حنث ووجب عليه الطلاق، وهو يكلمها، وإنما هو وهي كهيئتي وهيئتك الآن وهذا الآخر، قلت لك أعظم الله أجرك وهو يسمع فما الكلام إلا هذا، قد كلمها، ولو أرسل إليها رسولا ولم تسمعه لم أر عليه الطلاق، وإذا قال لها ذلك وهي تسمعه فقد كلمها، وأما دخوله عليها فلا أرى عليه حنثا لأنه إنما حلف وهو ينوي زيارتها وعيادتها، فهو إنما دخل يصلح شيئا يسد سترا أو يضع شيئا، لم يدخل زائرا ولا عائدا، فلا أرى عليه حنثا في ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله في هذه الرواية: فإن كان قال ذلك لامرأته وهي تسمع، فأراه قد حنث ووجب عليه الطلاق، معناه: إن كان قال ذلك لها وهو يريد أن يسمع ابنته المحلوف عليها، وهو صحيح لا اختلاف فيه؛ لأن تكليم الرجل الرجل هو أن يعبر له عما في نفسه بلسانه عبرة يفهمها السامع، فإذا خاطب غيره وهو يريد كلامه فقد حصل مكلما له وإن لم يقبل عليه بكلامه، فوجب أن يحنث إلا أن ينوي في حلفه ألا يكلمه، يريد بكلام يقبل عليه به، فتكون له نيته في الفتوى، واختلف إن كلم غير المحلوف عليه وهو يريد أن يسمع المحلوف عليه فلم يسمعه، بدليل قوله في هذه الرواية وهي تسمع أنه لا حنث عليه إذا لم تسمع، ومثله في سماع أبي زيد، ووجه ذلك: أنه لم يقبل بكلامه علية ولا أسمعه، فكأنه لم يكلمه، إذ لم يوجد منه معنى التكليم.
وقال عيسى بن دينار من رأيه في المدنية: إنه إن أراد أن يسمعه فهو حانث، سمعه أو لم يسمعه، وهو الأظهر؛ لأنه قد كلمه إذا أراد إسماعه لكلامه، وإن لم يقبل عليه بكلامه ولا سمعه، فوجب أن يحنث إلا أن يكون نوى في يمينه ألا يكلمه، يريد بكلام يقبل عليه به ويسمعه منه، كما أن من حلف ألا يكلم رجلا فكلمه من حيث يمكن أن يسمع كلامه فلم يسمعه أنه حانث إلا أن يكون نوى ألا يكلمه بكلام يسمعه منه، وسيأتي هذا المعنى في رسم سلف من سماع عيسى.
وأما إذا كلم غيره وهو لا يريد إسماعه فلا حنث عليه سمعه أو لم يسمعه قولا واحدا، وأما إذا كتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا فقرأ كتابه أو سمع رسالته، فقيل: إنه لا حنث عليه في الوجهين جميعا إذ لم يكلمه، وهو مذهب أشهب وابن شهاب وابن عبد الحكم؛ لأن التكليم إنما هو أن يعبر له عما في نفسه بلسانه عبارة يفهمها المكلم إذا أصغى إلى كلامه. وقيل: إنه حانث في الوجهين جميعا؛ لأنه وإن لم يكلمه فقد وجد منه معنى الكلام وهو التفهيم، والأحكام إنما هي للمعاني لا للأسماء، فوجب أن يحنث إلا أن تكون له نية أنه أراد المشافهة فيهما فيكون له نيته.
وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وظاهر قول ابن القاسم في رسم إن خرجت من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب، وقد روى عن مالك: أنه لا يُنَوَّى فيهما جميعا، وتلا قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ} [الشورى: 51]. وهو بعيد؛ لأن الصحيح في هذا الاستثناء إنما استثناء منفصل مقدر بـ لكن.
وله في المدونة قول ثالث: أنه لا ينوى في الكتاب وينوى في الرسول، ومعناه: مع قيام البينة عليه؛ إذ لا اختلاف في أن من أتى مستفتيا تقبل منه نيته ويصدق فيها دون يمين وإن بعدت. وقيل: إنه يحنث بالكتاب إلا أن تكون له نية في المشافهة، ولا يحنث في الرسول، وهو ظاهر رواية أشهب هذه، وقول ابن الماجشون في الواضحة.
وقوله: وأما دخوله عليها فلا أرى عليه حنثا؛ لأنه إنما حلف وهو ينوي زيارتها أو عيادتها، فمعناه: إذا أتي مستفتيا، وأما مع قيام البينة عليه، فلا ينوى؛ لأنها نية مخالفة لظاهر لفظه، كالذي يحلف ألا يدخل بيتا، ويقول: نويت شهرا وما أشبه، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف بطلاق امرأته البتة إن خرجت من بيته إلا أن يقضي عليه السلطان:

وسئل: عمن حلف بطلاق امرأته البتة إن خرجت من بيته إلا أن يقضي عليه السلطان بذلك أو تخرج بغير إذنه، فيضربها خمسين ضربة، وكانت تسكن مع أمه، فاستعدت عليه، وقالت: لا أسكن مع أمك، فقضى لها السلطان بأن تخرج عنها، فنقلها.
فقال له: ليس عليه في ذلك شيء، ولكن اليمين عليه كما هي عليه في المنزل الذي انتقل إليه.
قال محمد بن رشد: في ظاهر هذه اليمين اضطراب من لفظ الحالف؛ لأن يمينه بطلاق امرأته البتة إن خرجت إلا أن يقضي عليه سلطان، يوجب أنها إن خرجت دون أن يقضي عليه بخروجها، تَبِينُ منه بالبتات، وزيادته في اليمين أو تخرج بغير إذنه فيضربها خمسين ضربة يقتضي حلفه ليضربنها إن خرجت بغير إذنه، ويوجب ألا يلزمه بخروجها بغير إذنه طلاقا، إلا ألا يضربها خمسين ضربة، وإنما إن خرجت بإذنه لم يلزمه طلاق، وهذا اضطراب شديد، فمعنى يمينه الذي يحمل عليه أنه أراد ألا يأذن لها أن تخرج إلا أن يقضي عليه بذلك سلطان، وأن يضربها خمسين ضربة إن خرجت بغير إذنه، وعلى هذا يصح جوابه في المسألة: أنه إن قضى عليه السلطان بإخراجها من المنزل لم يحنث، ويكون اليمين عليه في المنزل الذي ينتقل إليه إذ لم يحنث بخروجها من ذلك المنزل بالقضاء، وهذا نحو ما في رسم إن خرجت ورسم أسلم من سماع عيسى في الذي يحلف لامرأته بطلاقها إن خرجت من داره، وكانت الدار بكراء، فأخرجها أهل الدار منها بانقضاء أمد الكراء أو أخرجها منها بأمر لم يستطع إلا الخروج والهرب منه- أن اليمين تلزمه في الدار التي انتقل إليها إلى انقضاء مدتها.

.مسألة حلف بالطلاق أو بالعتق ألا يدعها تخرج أبدا:

قيل: إن من حلف بالطلاق أو بالعتق ألا يدعها تخرج أبدا، أترى أن يقضى عليه به في أبيها وأمها ويحنث؟
قال: لا أرى عليه ذلك إذا حلف.
قال محمد بن رشد: دليل قوله في هذه المسألة لا أرى ذلك عليه إذا حلف أنه لو لم يحلف لقضي عليه، وهو منصوص له بعد هذا في هذا الرسم، يريد: إلا أن تكون امرأة تؤمن في نفسها، على ما قال في رسم طلق من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان، وقد قيل: إنه يقضي عليه حتى يمنع من الطرفين، كما لا يحنث حتى يحلف على الطرفين، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة، وبالله التوفيق.

.مسألة حلف بالطلاق أو العتق إن خرجت امرأته ألا يقضي عليه بذلك سلطان:

وسئل: عن الذي يحلف بالطلاق أو العتق إن خرجت امرأته ألا يقضي عليه بذلك سلطان يجب أن يقضي عليه بذلك، فقال: إني لأقول لمن حلف هكذا ألا يخبر السلطان أنه يجب ذلك، ولكن يخبره بخبره، فإذا قضى عليه السلطان فأرجو ألا يكون عليه شيء ولا حنث، ولا أرى بأسا أن يقضي عليه بذلك السلطان إذا علم أنه يجب ذلك.
قال محمد بن رشد: في كتاب ابن المواز، قيل لابن عبد الحكم: فإن جهل فأخبر الإمام بذلك؟ فقال: ما أشبهه أن يحنث، والقياس: أنه لا يحنث، أخبره هو بذلك أو غيره إذا امتنع من إخراجها حتى يقضي السلطان للمرأة عليه بإخراجها؛ لأن إرادته للقضاء عليه لا يخرج القضاء عليه من أن يكون قضى عليه لا في الحكم ولا في المعنى؛ لأن المرأة لا منفعة لها في إرادته لإخراجها إذا امتنع من إخراجها ولا يتوصل إلى الخروج مع امتناعه من ذلك إلا بالحكم أحب ذلك أو كرهه، وإنما خشي إذا أخبر السلطان أنه يجب أن يقضي عليه ألا يتقضى بحجج المرأة التي يوجب لها الإخراج، وهذا إن سامح فيه الإمام، فالإثم فيه عليه، ولا شيء على المقضي عليه، وإنما يحنث إن سامح في حجة داحضة تقوم بها المرأة، وهو قادر على إبطالها، وبالله التوفيق.

.مسألة يقول الحلال عَلَيَّ حرام ثم يحنث ويشهد عليه:

وسئل: عن الذي يقول: الحلال عَلَيَّ حرام، ثم يحنث ويشهد عليه، فيقول: إنما أردت من الطعام والشراب.
فقال: أرى أن يحلف، فقيل له: أرأيت إن قال واحدة؟ فقال: ليس ذلك له.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة والاختلاف فيها والقول عليها في سماع أصبغ من كتاب النذور، فلا معنى لإعادة ذلك، ويأتي فيها في آخر سماع سحنون من هذا الكتاب معنى زائد، سنتكلم عليه إذا مررنا به إن شاء الله.

.مسألة قال امرأته طالق إن خرج الخاتم من يدي حتى آخذ درهما:

وسئل: عمن استرفي ثوبا ورهن عنده بجعله خاتم، فجاءت صاحبة الثوب بعد أخذها الثوب، فقالت: أعطني الخاتم، فقال: امرأته طالق إن خرج الخاتم من يدي حتى آخذ درهما، وقالت هي: جاريتي حرة إن أعطيتك درهما، فما المخرج لهما من ذلك؟
فقال: إن كان الرفا إنما حلف على أن يأخذ درهمه لا يبالي ممن أخذه، فلو أن إنسانا من الناس أعطاه درهما لكان ذلك لهما مخرجا.
قال محمد بن رشد: في قوله في هذه المسألة: إن كان الرفا حلف على أن يأخذ درهما لا يبالي ممن أخذه، فلو أن إنسانا من الناس أعطاه درهما لكان ذلك لهما مخرجا، نظر يدل على أنه إن لم تكن له نية هكذا فهو حانث إن أخذ الدرهم من غير صاحب الثوب، والصواب: أنه لا حنث عليه إن أخذ الدرهم من غير صاحبة الثوب إلا أن يكون نوى في يمينه ألا يأخذه إلا من صاحبة الثوب؛ لأن الحالف إذا لم تكن له في يمينه نية فهي محمولة على ما يقتضيه اللفظ، وهو حلف ألا يخرج الخاتم من يده حتى يأخذ درهما، ولم يخص صاحبة الثوب من غيرها، ولو كان إنما حلف ألا يخرج الخاتم من يده حتى يأخذ درهما من صاحبة الثوب فدفع إليه إنسان درهما عنها من ماله ليبر قسمها للزمه أخذه وحنث في يمينه، إلا أن يقول: لم أرد صاحبة الثوب بعينها، وإنما قصدت أن يصل إلى درهمي وسميت صاحبة الثوب على العادة أن صاحب العمل هو الذي يؤدي أجره، فينوي في ذلك وإن كانت عليه بينة لأنها نية محتملة، ولو لم يؤد أحد عن المرأة الدرهم لكانت اليمين باقية على كل واحد منهما، يحنث هو إن أخذ أقل من درهم إلا ألا يحكم له عليها إلا بأقل من درهم، فيقول: إنما نويت إلا ألا يحكم لي عليها بدرهم، فينوى في ذلك، والذي يبر به إذا لم تكن له نية ألا يأخذ منها شيئا إذا لم يحكم له عليها إلا بأقل من درهم، وتحنث هي إن أعطته درهما بغير حكم باتفاق.
ويحكم على الاختلاف فيمن حلف ألا يفعل فعلا فقضى به عليه السلطان، وقد مضى ذلك في رسم سلعة سماها، ورسم حلف من سماع ابن القاسم، وسيأتي في آخر هذا الرسم وغيره أيضا، وبالله التوفيق.